منذ عام 2014 وإعادة رسم حدود أوروبا بالقوة، دخلنا عالما جديدا،ً عالم بتنا نرى أخطاره بشكل واضح، ولكن نظراً لخليط من الكسل الفكري ورغبة في طمأنة أنفسنا، صرنا نعرّف هذه اللحظة بأنها حرب باردة جديدة. والواقع أن العالم الذي دخلناه يثير في الذهن ذكريات توازن القوى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر – مع أسلحة نووية أكثر ورؤية استراتيجية أقل – أكثر مما يثير ذكريات البساطة المصطنعة لعالم الحرب الباردة. فاليوم، لم تعد ثمة كتل، ولم يعد ثمة عالم ثنائي القطبية. وبالمقابل، هناك تحالفات غير مثالية، وظرفية في أحيان كثيرة، في عالم متعدد القطبية. فالتحالف الأطلسي، في عهد ترامب ونسخ متنوعة من الشعبوية، لم يعد مثلما كان في السابق. والحوار بين بكين وموسكو جد مختل حتى يكون قابلاً للاستمرار على المدى الطويل. والرغبة في إثبات تفوق الأنظمة السلطوية على غرب ديمقراطي متراجع فقط لا تشكّل عقيدة استراتيجية. وفي زمن باتت تستخدم فيه القوة الوحشية بدون خجل، كيف لنا أن نختبئ خلف فكرة أن الحرب ستظل باردة؟ الواقع أنه إذا كانت الحرب الباردة قد جمعت بين كتلة ترغب في إعادة كتابة التاريخ خلف الاتحاد السوفييتي، وكتلة تؤيد بقاء الوضع الراهن على حاله خلف الولايات المتحدة، فإن الجميع تقريباً – باستثناء أوروبا ـ قد انتقل إلى الجانب الذي يرغب في إعادة كتابة التاريخ، في زمن دونالد ترامب وفلاديمير بوتين. وبحلول 12 مايو على أبعد تقدير، سنعرف ما إن كانت الولايات المتحدة ستندد بالاتفاق النووي الذي وقع مع إيران في 2015. ومع أن دونالد ترامب شخص غير قابل للتنبؤ كلياً، فإن معظم المراقبين يعتقدون أن تخلي واشنطن عن الاتفاق هو الاحتمال الأرجح. وبينما يزداد النزاع السوري اتساعاً، فإنه يصبح مجالَ التطبيق بالنسبة لكل الانتهاكات، إنْ لم يكن مصدر الفوضى القادمة. فهل يمكن أن يتعلق الأمر بـ«بَوْتنة» العالم (نسبة إلى بوتين)؟ تركيا أردوغان تسارع لملء الثغرة التي فتحتها روسيا. ولا شيء يضاهي استخدام القوة لكي يحقق المرء أهدافه؛ حيث تنوي أنقرة استخدام القوة العسكرية لكبح أي اهتمام ليس باستقلال كردي فقط، ولكن حتى بحكم ذاتي محدود. ولأنه لم يعد ثمة حكَم يفرض السلام، ولا محفل يشير إلى القانون، يصبح الأسوأ ممكناً، إن لم يكن محتملاً. إن رياحاً سيئة تهب على العالم، ويمكن تلخيصها كالآتي. فبينما صارت الشكوك والتساؤلات تحوم حول النموذج الديمقراطي، قلّ الإيمان بفضائل الدبلوماسية وصار أضعف من أي وقت مضى. وكل شيء يحدث كما لو أن هذين الركنين من أركان العقلانية أضحيا الضحية الرئيسة لعهد تطغى فيه الاندفاعية والانفعالية، كما لو أننا لا نستطيع الرد على تعقيد العالم سوى بوحشية وتبسيط. خلال الحرب الباردة – الحقيقية -، كان بوسع المعسكر المنادي بإعادة كتابة التاريخ دائماً إيجاد بعض الدعم بين من يوجدون على الجانب الآخر والرامين للإبقاء على الوضع الراهن بفضل الإيديولوجيا الشيوعية، التي آوت القضية الأمبريالية الروسية خلف لواء الثورة الاشتراكية. واليوم، ومع البحث اليائس عن الاستقرار في وجه التهديد «الإرهابي»، والتحدي الذي يواجه الديمقراطية في عالم يبدو أنه لا يفيد سوى الأغنياء والأقوياء، وجمرات النزعة المعادية للولايات المتحدة التي أجّجها انجراف واشنطن الفوضوي، يمكن القول إن كل الشروط اكتملت لمد روسيا ونموذجها السلطوي بمزيد من المرافقين. وباستثناء هذه الأيام، فإن المنادين بإعادة كتابة التاريخ لا يحصلون على الدعم برغم الاستبداد السائد، وإنما بسببه. والمؤيدون يجدون الطبيعة السلطوية «مطَمْئِنة». إنه عالم غريب عجزنا فيه لفترة طويلة جداً عن رؤية الغابة الروسية بسبب تركيزنا على الشجرة «الإرهابية». وقد تكون الغابة الروسية نفسها تخفي وراءها غابة صينية أكبر. فكيف لنا أن نضع حدوداً لهذا الانجراف الوجودي؟ الواقع أن علاقتنا مع القوة النووية نفسها تغيرت. فالسلاح الأقوى لم تعد لديه القوة الردعية التي كانت لديه في أعقاب حرب عالمية انتهت مع هيروشيما وناجازاكي. ومع مرور الوقت وتنوع التهديدات، من الإرهاب إلى الهجمات السيبرانية، أصبح السلاح الأقوى مجرداً أكثر. صحيح أن إعادة انتخاب فلاديمير بوتين يمكن أن تدفع بعض الأشخاص إلى استنتاجات خطيرة من قبيل: إن أمد الديمقراطية فاق أمد فائدتها؛ وإن الغرب الليبرالي يموت أمام أعيننا؛ وإن هذا لم يعد وقت الدبلوماسية، بل وقت القوة. والواقع أن ما نعرفه أكبر وأفضل من الرد على تعقيد العالم بردود تبسيطية. ولكن ماذا عسانا نفعل عندما يأتي النموذج السيئ الآن من واشنطن ومن موسكو معاً؟ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»